للشعرِ في مدرسةِ مار يوسف قرنة شهوان، مسارحُ يتألّقُ على خشبتِها جِرسًا وإيقاعا... للقصيدةِ ملاعبُ تتراقصُ في أرجائِها طرَبًا وإنشادا... للأدب مواعيدُ تتلألأُ فيها ألوانُ التعبيرِ إحساسًا وإبداعا...
في زمن العَولمة، يُحافظُ هذا الصرحُ الكبيرُ على النَفَسِ الوجدانيِّ العميق!
في عصرِ الأرقامِ، ترفلُ الكلمةُ فيه بثوبٍ أدبيٍّ بديع!
في عالمٍ هيمنَتْ فيه الآلةُ على ميادينِ الحياةِ كلِّها، ما زالَ طلّابُنا يعبّرونَ عن إحساسِهم بجرأةٍ وحرّيّة...
في عهدِ التكنولوجيا وتسلّطِها على البشر، من أقصى الغربِ إلى أقصى الشرق، ما زالوا يغنّونَ للحبِّ، للحياةِ، للجمالِ، للوطنِ والقِيَمِ الأخلاقيّة...
ما زالوا يتمسّكونَ بأغراضِ الشعرِ تزهو بهم على المنابر... ويطلقونَ على طريقتِهم صرخاتٍ عفويّة، نسمعُها بنبرةِ أصواتِهم، ونغمةِ عزفهِم... صرخاتٍ حضاريّة، نراها في تصويرِ لوحاتِهم وارتقاءِ أدائِهم، وسموِّ أخلاقِهم...
كيفَ لا؟ وهم الذين نَمَوا في كنَفِ مدرسةٍ علّمتْهم الحبَّ على أنواعِهِ، حبَّ الحياةِ، حبَّ الجمالِ، حبَّ العطاءِ، وحبَّ الآخرينَ بشفافيّة!!
أليسوا هم مَنْ نشَؤُوا على قِيَمِ الحقِّ والخيرِ والجمال؟ أليسوا هم مَنِ اعتادوا الصلاةَ والتأمّلَ والسكينة، وأصغَوا إلى لغةِ القلبِ وهمساتِ الروحِ الدفينة؟ ألم يعشقوا من طفولتِهم لغةَ أجدادِهم، أَلَمْ ينهلوا نهلًا من ينبوعِ أدبِها، ليرووا ظمأَ ألسنتِهم وأفئدتِهم الطريّة؟....
ها هي أصواتُهم تصدحُ، ككلّ عامٍ، تُحيي مهرجانَ الكلمة، تُقيم عيدًا للقصيدة، تعبّرُ بأرقى الأساليبِ عن الوجعِ والفرح، عن الصلابةِ والإيمان، عن البطولةِ والشجاعة والوطنيّة...
ها هم يسلكونَ خيرَ سبيلٍ للعودةِ إلى الأصالة، والتمسّكِ بالجذورِ بوجهِ الاضمحلالِ والانحناءِ والخضوعِ لعواصفِ الدهرِ ونوائبِ القَدَرِ وذلِّ الصِعاب والمِحَن...
مساءُ التاسعَ عشرَ من شهرِ أيّار 2023 كان محطّةً فريدةً بينَ المحطّاتِ التي تشهدُها المدرسة. محطّةٌ اجتمعَتْ فيها عائلةُ مدرسةِ مار يوسف بكلّ أقسامها، تلامذةً، معلّمينَ وإداريين، تحلّقوا معًا حولَ ضيوفِهمِ المُكَرَّمين... محطّةٌ تعانقَتْ فيها الحروفُ، وسَكِرَتِ الكلماتُ وازدانتِ الأقلامُ بحامليها!
تلكَ المحطّةُ إنْ هي إلّا أمسيةٌ شعريّةٌ أحياها أدباءُ صغارٌ. صغارٌ في سنِّهم، كبارٌ في همّتِهم وعزيمتِهم! فيها أبدعوا، تألّقوا، تميّزوا... فيها استضاء مسرحُ مدرستِهِم بجودِ إلقائِهم، واستأنسَتِ الآذانُ بشجيِّ أنغامِهم، واستمطرتِ العيونُ دموعَها افتخارًا بعطائِهم!
استهلّتِ الأمسيةُ بالنشيدِ الوطنيِّ اللبنانيِّ تلاهُ نشيدُ المدرسة، أعقبَ النشيدَينِ كلمةٌ للشاعر زياد عقيقيّ، رئيسِ دائرة اللغة العربيّة في المدرسة، رحّبَ فيها بضيفِ الأمسية، القامةِ الأدبيّةِ والإذاعيّةِ المشهورة، الشاعر حبيب يونس؛ كما رحّبَ بالحاضرينَ من طلّابٍ وأهلٍ وهيئتَينِ إداريّة وتعليميّة.
وفي جوٍّ حضاريٍّ راقٍ تسودُهُ روحُ المنافسةِ الشريفةِ، توالَتْ أسماءُ الفائزين الخمسين عبر المراحل. كلٌّ منهم ألقى قصيدةً مِنِ اختيارِهِ، مراعيًا نطقَ حروفِها، وضبطَ كلماتِها، مُجيدًا شروطَ الوقفِ والنبرِ والتنغيم.
تخلّل الحفلَ عزفٌ على البيانو أبدعَتْهُ أناملُ الطالب أليكس عقيقي، ورسمُ لوحاتٍ فنّيّةٍ، صوّرَتْها ريشةُ الطالبَينِ تيا معلوف ويورغو الجميّل، وقراءاتٌ شعريّةٌ أطلقَتْها حنجرةُ الشاعرِ حبيب يونس ضيفِ الاحتفال، كانَ لها أبلغُ الأثرِ في العقلِ والقلبِ والوجدان...
وفي الختام وزّعَتِ الدروعُ وشهاداتُ التقديرِ على المشاركينَ ضيوفًا وطلّابًا، وتمَّ التقاطُ الصُوَر التذكاريّة.
ودّعَ الحاضرونَ بعضُهم بعضًا؛ منهم مَنْ حلَّ ضيفًا مُكرَّمًا، ومنهم مَنْ حَضَرَ ملبّيًا دعوةَ المدرسة، ومنهم مَنْ فازَ بالجوائزِ في مبارياتِ الإلقاءِ المدرسيّة... ولكنْ، وراءَ كلِّ فَوزٍ جنودٌ مجهولون! جنودٌ أوفياءُ مجاهدون... هؤلاءِ هم مَن أعدّوا الأمسيةَ ونظّموا فقراتِها، فاستحقّوا التهنئةَ والثقةَ والتقدير.. هؤلاءِ هم المربّونَ الحقيقيّون، هم الكبارُ المتواضعون!!
انتهَتِ الأمسيةُ، رحلَ الجميعُ وبقيتْ في البالِ وقائعُها، وفي القلوبِ شوقٌ إلى لقاءٍ شعريٍّ آخرَ معَ مبدعِينَ آخرينَ وقصائدَ للحبِّ جديدة...