وكانَ العرسُ المنتظَر.. كانَ اللقاءُ والبهاء..
وكان الغِناء والهناء والضياء!
شهدَتْ مدرسةُ مار يوسف – قرنة شهوان، عرسَ الكلمة، مساءَ السادس عشر من شهرِ أيّار 2025... أمّا المدعوّونَ إلى العرس فكانوا أهلَ البيت، طلّابَ معرفةٍ بَذَروا حقولها جهدًا وعَزمًا وتصميما، وانتظروا موسمَ الحصاد... وحانَ الموعدُ، فجمعوا غلالًا شهيّة، وأطعموا الجياعَ من أياديهم الفتيّة...
وحضرَ أيضًا المُرَبّون من ذَوي الطلبة والإداريّين والمعلّمين الذينَ روَوا النبتَ الطريَّ بعرقِ جبينِهم، وسهروا عليه حتّى نما وكبرَ وأزهرَ، وأعطى منَ الثمارِ المباركة أطيبَها وأشهاها...
يُطلّ أيّارُ، كلّ عامٍ، حاملًا بشائرَ الحُبور، في مواعيدِه المنتظَرة، ويأبى أن يُغادرَنا قبلَ أن يطبعَ بصمتَه على صفحاتِ العزِّ في سجلِّ تاريخِنا المدرسيّ. بصمةٌ لها رونقٌ خاصٌّ، بصمةٌ تخلّدُ أغلى المناسبات، وتحتفظُ بأغلى الصُوَر...
من بصماتِهِ المُلهمة، هذه الأمسيةُ الوجدانيّة... حينَ زُفَّت الكلمةُ إلى الألحان، وعزفَتِ القوافي معزوفاتِها العذبة، وزغردَتِ الأرواءُ أغاريدَ الطرب، وصدحَتِ الحناجرُ على المنابر... فصفّقتِ الأكفُّ، وانتشتِ الأقلامُ، وسكرتِ القصائد! أمّا الإيقاعُ فأبدعَ... كيف لا يُبدع؟ وهو نبضُ المعنى في جسدِ الكلام، وظلالُ الضوءِ تُراقِصُ الحروف، وانسيابُ الأماني على وقعِ المشاعر، حينَ تسيرُ على رؤوسِ أصابعِها، كيلا تستفيقَ الأحلام! في هذه اللحظات، ينطقُ السكون، وتهمسُ الخواطرُ في الآذانِ أغانيَ مجدٍ، تعانقُ الأرواحَ وتخطفُ الأنفاس!
افتُتحتِ الأمسيةُ الشعريّة بالنشيدِ الوطنيِّ اللبنانيِّ، تَبِعَه نشيدُ المدرسة. وأعقبَ النشيدَينِ كلمةٌ لعريفةِ الحفل، السيّدة باسكال أبي كرم، أثنَتْ فيها على جهودِ طلّابِنا الفتيان؛ ثمّ قدّمَتِ الشاعر زياد عقيقيّ، رئيسَ دائرة اللغة العربيّة في المدرسة، الذي رحّب بدورِه، بالضيفِ الكريم، فارسِ القصيدة العامّيّة، القامةِ الأدبيّة الرفيعة، الشاعر الدكتور ابراهيم شحرور... كما رحّبَ أيضًا بالحضور من طلّابٍ وأهلٍ وهيئتَينِ إداريّة وتعليميّة.
وكألوانِ الربيعِ تهزمُ ظلمةَ الشتاء، أو قوسِ قزحٍ ينبثقُ بين الغمامِ مبشّرًا بعودةِ النبضِ إلى الحياة... في ظلالِ السكينةِ وأنغامِ الأفراح، في لحظاتِ التأمّلِ والرجاءِ، حكى أبطالُنا الشعراء حكايا شوقٍ قابعٍ في الصدور، وملأوا صفحاتِ الوجودِ قصائدَ أملٍ... وبثقةٍ فائقة، اعتلَوا منبرَ مدرستِهم تِباعًا، غنَّوا للحبّ، للوطنِ، للأمّ، للأرض، للطبيعة، لقِيَمِ الحقِّ والخيرِ والجمال.. وانسابَتْ قصائدُهم في أفئدةِ الحاضرينَ كنسائمِ الفجرِ الدافئة، فأعادُوا للأدبِ أجواءَه المفقودةَ حتّى أضحَتْ مذهلةً برفقتِهم، لا تشبهُها أجواءٌ أخرى في الوجود!
ومعَ الألحانِ تتردّدُ أصداؤُها في أروقةِ المدرسةِ، وتحتَ سنديانتِها العتيقة، أطلقتْ حناجرُهم أنغامًا شجيّة! إنّهم الحلمُ الواعدُ بمستقبلٍ يتألّقُ بوشاحٍ زاهٍ، من نورِ محابرهِم البهيّة...إنّهُم الأملُ بغدٍ مشرقٍ يحمونهُ بأهدابِ عيونِهم وقلوبِهم النقيّة!
أمّا الحاضرونَ في هذا اللقاء، فقد أصغَوا بشغفٍ إلى الشعر يختالُ في حناجرِ أبنائِهم، وصفّقوا طويلًا لروعةِ أدائهم، وهلّلوا للحبورِ تنسكبُ ألوانُه في وجدانِهم فخرًا وعشقًا وطَرَبا...
وفي ختامِ الأمسيةِ، تسلّمَ الشاعر الضيف درعًا تقديريّة، ووُزّعَت شهاداتُ التقديرِ على المشاركينَ ضيوفًا وطلّابًا، وتَمَّ التقاطُ الصُوَرِ التذكاريّة، كما تبادلَ الحاضرونَ التهاني بهذا الإنجازِ الراقي.
وحين هيمنَتْ عتمةُ الليل على التلالِ المجاورة، وعمّ الصمتُ كلَّ النواحي، وخيّمتِ السكينةُ على المرتفعات.. انحنتْ عناصرُ الطبيعةِ إجلالًا لعطاءاتِ طلّابِنا، وتعانقَتْ آخرُ أبياتٍ شعريّةٍ معَ دقّاتِ القلوبِ، عناقًا حارًّا.. لم يكن عناقَ وداعٍ بل عناقُ حنينٍ وانتظار.. انتظارُ موعدٍ آخرَ منَ الألقِ والإبداعِ!
وازدادت نظراتُ الحاضرين عمقًا، كأنَّ كلًا منهم يحاولُ تسجيلَ وقائعِ اللحظاتِ الأخيرة لتخليدِها في الذاكرة، وانسدلَ الستارُ على أملٍ بلقاءٍ جديدٍ، وغادرَ الجميعُ وهم يحتفظون في قلوبِهم بأصداءِ الأشعارِ وأنوارِ الذكريات...